ركام غزة- كيف تحول التدمير الإسرائيلي إلى ميزة للمقاومة

في خضم الصراع الدائر في غزة، لجأت إسرائيل إلى استراتيجية مدمرة، قوامها تدمير أوسع نطاق من المباني، مستهدفةً كل ما تطاله نيران طائراتها، متوهمةً أن هذا التدمير سيسهل على قواتها التقدم نحو أنفاق المقاومة وكمائنها المتوقعة. بيد أن هذه الاستراتيجية سرعان ما انعكست عليها، إذ تحولت الأطلال والأنقاض إلى نقطة ضعف حقيقية في مسيرة الجيش الإسرائيلي داخل غزة.
عادةً ما تلجأ الجيوش النظامية إلى حفر الخنادق أو إقامة السواتر الترابية والخرسانية، وذلك في إطار المهام الدفاعية. أما في حالة الهجوم، فإنها تعمل على شق طرق وعرة لتذليل العقبات أمامها، وكل ذلك بهدف تسهيل مهمتها في اقتناص العدو أو صده أو فتح الطريق للوصول إليه. يطلق العسكريون تسمية "الأرض الصعبة" على المساحات المفتوحة، وذلك لأن القوات تكون مكشوفة أمام نيران العدو، بينما تعتبر الأماكن ذات التضاريس الوعرة "أرضًا سهلة"، لأن الطبيعة تعمل لصالحها وتوفر لها غطاءً وحماية.
"فن الحرب"
في الواقع، تعتبر كل الأشياء المادية الثابتة، من غابات وحدائق، وبيوت وشوارع، وتلال ووهاد وكثبان رملية، وأنهار وقنوات ري، جزءًا لا يتجزأ من مسرح العمليات العسكرية، ويجب أخذها في الاعتبار عند وضع الخطط القتالية وإحكامها، بحيث يتم تحويل عناصر البيئة إلى عوامل مساعدة للقوات في الهجوم والدفاع على حد سواء.
وفي هذا السياق، ينصح سون تزو في كتابه الخالد "فن الحرب" بتجنب الحروب في المدن، خاصة ذات الأسوار العالية، لأنها تستهلك طاقة القتال وتعمل لصالح سكانها الأصليين. فحروب المدن تتسم بالغموض والتقلب والتعقيد والمخاطر التي تنجم عن تداخل المنشآت العسكرية والمدنية. ولهذا السبب، لطالما كره معظم الجنرالات، عبر التاريخ، القتال في المدن وسعوا جاهدين لتفاديه.
وفي حالة غزة، يواجه الجيش الإسرائيلي مجموعات تتبنى أسلوب "حرب العصابات"، وهو ما منحها الأنفاق مزيدًا من الفاعلية، ووفر لها مساحات إضافية للمناورة، في رقعة جغرافية ضيقة، حشدت لها إسرائيل كل هذه القوات القتالية بهدف إحكام السيطرة عليها.
لقد ساهمت المباني المدمرة في إحداث تحول جذري في "المعادلة العسكرية"، حيث تحولت إلى أماكن اختباء للمقاومين، تمنحهم فرصًا للمباغتة والانقضاض السريع، وتحمي ظهورهم أثناء الانسحاب بعد مهاجمة الجيش الإسرائيلي. وعلى النقيض من ذلك، أصبحت هذه المباني المدمرة عبئًا ثقيلاً على تقدم الجيش الإسرائيلي نحو المقاومين المختبئين في الأنفاق أو الكمائن.
تكشف صور الأقمار الصناعية، حتى نهاية شهر فبراير الماضي، عن أن القصف الإسرائيلي قد ألحق أضرارًا بحوالي 89 ألف مبنى، من بينها أكثر من 31 ألف مبنى دُمرت بالكامل، ونحو 17 ألف مبنى تضررت بشدة، في حين تضرر حوالي 41 ألف مبنى بشكل متوسط. هذا الرقم يفوق بكثير ما حدث خلال حرب عام 2008، حيث بلغ عدد المباني المدمرة كليًا 5350 مبنى، و16 ألف مبنى جزئيًا.
لقد أوجدت البيوت المدمرة بيئة جغرافية مختلفة تمامًا عن تلك التي اعتاد الجيش الإسرائيلي القتال فيها، سواء كانت أرضًا مفتوحة أو ممرات في سيناء في حروب 1956 و1967 و1973 ضد مصر، أو هضابًا يكون لمن يسرع في الاستيلاء عليها اليد العليا على خصمه، مثل هضبة الجولان السورية، أو أرضًا تجمع بين التلال والسهول في جنوب لبنان.
توغل خاطف ومحسوب
يطلق الجيش الإسرائيلي على الحرب الحضرية اسم "لاشاب" بالعبرية، ولديه تكتيكات حربية واسعة النطاق، تشمل استخدام ناقلات جنود مُدرّعة ثقيلة، وجرافات مُدرّعة، وطائرات بدون طيار للاستخبارات السرية، وغيرها، بالإضافة إلى تدريب القوات على القتال في مساحات ضيقة.
في مواجهة الفلسطينيين، ظلت الثقافة العسكرية الإسرائيلية أسيرة التطويق والاختراق المحسوب على الأرض، والقصف المفرط من الجو والبحر. ففي حرب عام 1948، كانت القوات الإسرائيلية تطوق القرى والبلدات الفلسطينية من ثلاث جهات، وتترك جهة رابعة للخروج والهروب، ثم تتوغل ضاربة بشدة، وفق طريقة عرفت بـ"حدوة الفرس"، محققة بها هدفها في تهجير الفلسطينيين من قراهم.
وفي الضفة الغربية، أقامت إسرائيل جدارًا عازلًا عنصريًا، يؤدي دورًا دفاعيًا من الناحية العسكرية، إذ يحرم أية مجموعات فلسطينية مقاتلة من تنفيذ هجمات مباغتة. أما المداهمات التي تقوم بها وحدات عسكرية إسرائيلية بين الحين والآخر للمدن والمخيمات والقرى، فقد كانت تتم بحذر، ووسط تأمين لتقدم القوات، لمنع خسائرها أو تقليصها إلى أدنى حد، وكانت تقوم أحيانًا بهدم منزل أو عدد قليل من المنازل، لتسهيل تقدمها، أو تأمين تمركزها.
أما غزة، فقد تكبدت القوات الإسرائيلية خسائر فادحة جراء الهجمات المباغتة لقواتها ومستوطناتها قبل أن تضطر إلى تفكيكها والانسحاب من القطاع نهائيًا عام 2004. وركزت إسرائيل في حروبها اللاحقة ضد غزة على القصف الجوي، أو التوغل البري الخاطف والمحسوب، وهو ما تغير في الحرب الراهنة من خلال اجتياح بري شامل من عدة محاور، بعد قصف عنيف دمر أحياء سكنية بأكملها.
وكانت إسرائيل تهدف من وراء هذا الهدم المنظم إلى إجبار السكان على النزوح، إما لإخلاء المنطقة بين قواتها والمقاومين، تحت الأرض أو فوقها، أو للدفع نحو تحقيق الهدف الأكبر الخفي، وهو تهجير سكان القطاع بشكل كامل، لتحويله بالكامل أو جزء كبير منه إلى مستوطنات مرة أخرى، بالإضافة إلى تحقيق نصر عسكري سريع باستخدام نظرية "الصدمة والرعب"، أو الانتقام من سكان غزة جميعًا، الذين نشأت بينهم المقاومة.
تبديد الأهداف
لكن هذا التدمير الممنهج للمباني، الذي لم يشهد العالم مثيلًا له منذ الحرب العالمية الثانية، والذي كان هذه المرة أشد قسوة نظرًا لضيق المساحة الجغرافية لغزة، سرعان ما تحول إلى أحد الأسباب الرئيسية لتبديد الأهداف الإسرائيلية برمتها، سواء في تهجير السكان أو القضاء التام على المقاومة، كما أعلنت إسرائيل في اليوم الأول للحرب، أو على الأقل إثارة الذعر والغضب العارم بين السكان، بهدف نزع الحاضنة الشعبية عن المقاومين.
لقد عززت الأحياء السكنية المدمرة الصورة الوحشية للقوات الإسرائيلية، جنبًا إلى جنب مع صور الأطفال والنساء والشيوخ القتلى، وقصف المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس ومراكز الإيواء، وكل هذا لفت أنظار العالم إلى قضية تهجير الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، منحت المباني المدمرة المقاومة فرصًا للحركة، التي تعتمد بشكل أساسي على المقاتل الفردي، أو المشاة المسلحين بأسلحة خفيفة، لمباغتة تجمعات القوات الإسرائيلية، خاصة في ظل إصرارها على التقدم للوصول إلى ما تقول إنها بدايات الأنفاق.
وفي الوقت نفسه، لم يمنع هدم المنازل، الذي يشير تقرير للأمم المتحدة إلى أن إعادة بنائها قد تستغرق عقدين من الزمن على الأقل، إصرار السكان على البقاء في أماكنهم، حتى لو أقاموا خيامًا فوق أطلال منازلهم، وحتى عندما اضطروا إلى النزوح عنها، سرعان ما عادوا إليها عندما أتيحت لهم الفرصة لذلك. وقد وفر وجودهم هذا حاضنة شعبية ودعمًا لوجستيًا للمقاومة المنظمة والمدربة، أو للمقاومين المتطوعين الذين انخرطوا في القتال مع طول أمد الحرب.
لقد جمعت المقاومة بين الاستفادة من تكتيكات "حرب المدن" و"سياسة الأرض المحروقة" التي صنعها الجيش الإسرائيلي نفسه، من خلال هدم أحياء بأكملها؛ بهدف الاستيلاء التام عليها، فحدث العكس تمامًا. لقد حاصرت الأنقاض الإسرائيليين، وجعلت هجومهم يحتاج إلى المزيد من المقاتلين، وأصبحت بالنسبة لهم أكبر فخ خداعي.
